إن إنجازاتنا التي نحققها في حياتنا هي الجسر الذي نمر عبره إلى مستقبلنا بما يحمله من آمال وأحلام وردية، هذه الإنجازات التي وصلنا إليها بشق الأنفس بعد أن تخطينا كافة العراقيل التي حالت في لحظة ما من الوصول إليها.. لقد هدرنا من الوقت الكثير، وسهرنا الليالي الطوال، وحرمنا أنفسنا كثيراً من المتعة والراحة لقاء فقط أن نلتزم ذاتياً بوعود قطعناها على أنفسنا ولم نغادرها إلا وقد أنجزناها كافة أو بعضاً منها.
وليس بغريب في الوقت ذاته أن نخصص جزءً كبيراً من أحلامنا ليس لأنفسنا فقط، إنما لأشخاص احتلوا في قلوبنا مساحة عظمى، إنها القلوب التي اعتادت على الايثار دوماً، اعتادت أن تراعاهم كما ترعى الأم جنينها، وتدعو لهم بالسر والعلن.. تتمنى لهم السعادة والبقاء، وتعتبرهم أساساً مقابل أنفسنا والتي قيدناها بقيود من أمل ذهبية العطاء وأصيلة المبدأ.
أغادر اليوم حلماً ضخماً باهض الثمن.. حلم سقط من سلم أولوياتي بعد أن تربع عليها بكل جدارة وإخلاص.. لا أستطيع أن أخفى ألمه ولو للحظة ما.. وما زلت أقطر دمعاً لأجله، كيف لا وأنا زرعته بذرة في قلبي وأسقيته من دموعي، ونام بين جفوني، واحتضنته ذراعي بكل حب وأمان، حتى كبر وأورق وتفتحت أزهاره وأخرج ثمره.. ولكن يا ليته لم يكبر ولم يثمر، يا ليته لم ينبت في قلبي، يا ليت بذوره كانت عقيمة لم تبنت.. «ليتنا لم نكبر ولم تكبر الإبل».
نعم جننت، هذا أنا الذي يدعو على حلمه، ويتمنى له التآكل والانهيار كما انهار جدار برلين، بل إن انهيار جدار برلين كان أخفّ وطئاً فقد جمع الأصدقاء والأهل وربما الأحبة حينما أصبحت الألمانيتين دولة واحدة، بل أتنمى له الغرق كما غرقت سفينة «تيتانيك» في عُرض المحيط.
ما يؤلم حقاً هو ليس الجهد والثمن الذي كرّسته لحلمي ذاك، وليس الخسائر الفادحة التي مُنُيتُ بها لحظة التنازل عليه، أو التحيز «الظالم» في التعامل مع أحلامي الجميلة لقاء أن يبقى حلمي المفقود أولوية قابلة التنفيذ في القريب العاجل.. ما يؤلم حقاً هو «هم».. نعم «هم» من لم يدكوا قيمة ما أنجزته وقدمته لهم على طبق من ذهب، وهو محمولون على أكفّ الراحة والهناء، وأنا أعاني الأمرّين في تقشّفي مع ظروف الحالية بالغة التعقيد.
ومن الطامات الكبرى، والأعذار الأقبح من ذنب، وما يندى لهم الجبين، وتدمع له العين، ويحزن لأجله القلب، هو فقدان الأمل!!! إنه الراعي الحصري لكل آمالي وطموحاتي ولكل عمل أود تحقيقه في حياتي.. لا شيء يمكن إنجاره من غير أن يكون الأمل موجوداً.. فنحن لا نستطيع العيش بدون الأمل! كثيراً نقرّ أن حلماً ما في حياتنا لا يمكن له أن يكون ونحكم عليه بالفشل مسبقاً ومع ذلك نداعب أنفسنا ببصيص من فسحة الأمل كي يعيننا على إكمال المسيرة، واليوم يصرخون من فم واسع «لا يوجد أمل».. تبّاً!!
إنّهم يعلمون جيداً أن الأمل موجود دائماً، والأمل بالله تعالى هو ما يعيننا على البقاء والثبات، ويجعلنا قريبون مما نريد، إنّه القادر على كل شيء، إنّه من يقول «كن فيكون».. بقليل من الإخلاص لله تعالى، وإحسان الظن به، والاتزام بأوامره والابتعاد عن نواهيه يكون الله معنا، ومع إصرار الدعاء والابتهال له نحقق ما نريد.. هل التفتوا لذلك؟! أم أنهم فقدوا الأمل حتى «برب الأمل»..
إن فعلتهم تلك غير مبررة نهائياً، ولا يمكن لها أن تغتفر مهما كان، فلو أنهم انسحبوا بأخلاق لهان عليّ ذلك.. ولكنهم فضلوا الالتفاف في طرق فرعية وعِرَةٍ لن يحسنوا القياة فيها لاحقاً، ولم يدركوا في الآن ذاته أن طرقهم تلك صنعْتها بنفسي لتكون خط رجعة لكل من تسول نفسه أن يَفُتّ في عضد مملكة أحلامي السامية.. ولكن أيّ طريق اختاروها؟؟!
حقّاً لا يوجد تفسير لذلك غير الانهازمية التي حطت راحالها على قلوبهم الصمّاء، بعدما داعب نفوسهم العرج واليأس والجبن.. يا ليتهم يفيقوا من تجلّط مشاعرهم، من تجلّد حواسهم، من ربو تفكيرهم الضيق، ومن تنكر الجميل.. يا له من خنوع!! لا أريد تعويضاً ولا تربيتاً.. فلو صهروا أنفسهم في بوتقة تأنيب الضمير لم تُطفأ في قلبي ألم نزف ثانية واحدة سكبتها على رحيلهم الأعمى..
لن أدق طبول الحرب إيذاناً ببدأ معركة الثأر، فلم أعتد على الثأر من الضعاف، ولم أعتد على منازلة من لا يملك شيئاً يخسره.. فقلبي مسالم يرحم الضعفاء ويصفح عن المخطئين، فالعفو عند المقدرة كما يقول الحكماء.. بل سأنكس أعلامي حداداً وتبيجلاً على روح حلم عظيم جميل قُتل بوهم فقدان الأمل، وسأقرأ الفاتحة على رحيلهم وما تيسر من الذكر الحكيم علّه يغفر لهم، ويخفف عنهم عذاب الضمير إن أراد القدر له أن يفيق يوماً ما..
لقد آن الأوان ودقت ساعة الصفر لإعلان مراسم التأبين، والعنوان واضح جلي «لا يمكن العيش مع من يفقد الأمل.. ففاقد الشيء لا يعطيه».