طفولة ضائعة

كتبت: زينب خليلية

كلية العلوم – جامعة النجاح الوطنية

 هُم في غربة من المكان، فأصبحوا في غربة من الزمان كذلك، تدوّي أصوات حناجرهم المذبوحة في كل ركن وزاوية من المخيم، أنّات وآهات تتسلل إليك مع كل نسمة هواء، رائحة الموت تنتشر في كل مكان..

 هنا، كانت بيوت يسكنها بشر أصبحتْ أكواماً من القمامة، وهناك كان أناس يتعطّشون إلى الحرية والعودة إلى حضن الأم..

وفي ذلك المكان بنيت آمال وأحلام شباب.. فلم يبقَ لهم إلا الألم والأسى من أعماق تلك المجزرة المجنونة التي لم ترحم شيخاً ولا طفلاً ولا طيراً..

 يتجول ذلك الطفل ملهوفاً ينظر في كل اتجاه بثيابه البالية وعينيه البائستين.. يداه الصغيرتان ترتجفان، فقد ضعفت حركته وقلّت حيلته.. صوته الصغير يدوّي ليصل إلى كل بقعة من ضمير في هذا العالم.

 يصرخ ضائعاً باحثاً عن والديه وإخوته، ويصرخ باكياً مستنجداً يريد قطعة من الخبز يملأ بها تلك الأمعاء الخاوية العطشى..

yarmouk

 آه يا ضمائر ذُبحت على مناصب الإنسانية البائدة، أطفال اليرموك يغتالهم الجوع.. يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، ليكونوا لقمة سائغة لحيتان البحار والمحيطات..

 آه يا ضمائر التّخاذل في قواميس التاريخ الزائفة، تتسابقون على لقب ملك الأغنية، وتجعلون من تلك الدماء الطاهرة نبيذاً وشراباً سائغا لأمسياتكم.. أن تصبح مأساتهم لحناً جديداً يتغنى به المطربون وتدق الطبول على آلامهم ومعاناتهم..

 آه يا طفولة ضاعت بين اجتماعاتٍ ومؤتمراتٍ وبين وعود وأحلام..

أي ذنب اقترفه أطفال بعمر الزهور لترسو بهم سفينة الموت على شاطئ لا ميناء له؟ فكتبوا رسائلهم لا بالدموع ولا بالندى بل بقطرات من الدم..

 يعود ذلك الطفل يبتعد بنظراته بين تلك الجثث.. فأين أنت ذاهب أيها الصغير؟ لا معيل ولا معين، ومثلك مئآت وألوف..

 لا تنادي، ولا تصرخ، فلا معتصم هناك ولا صلاح الدين..

 أنتَ في زمن انقلبت موازينه رأساً على عقب فأصبح الباطل حقّاً، وأصبح التّخاذل بطولة.. والعدو صديقا..

 لا تصرخ ولا تبحث، قفْ مكانك شامخاً ومت مكانك، ولتزفّ اليرموك شهيداً يوماً بعد يوم فداءً لأصحاب الكراسي والمناصب..

 ###

جنون المواجهة

دائماً ما كان يخلج في جوفه قبل أن يردد ذلك على مسامع الآخرين، يردد دوماً أن المطر يعني له الكثير.. يعني له الأمل والفجر والحب والحرية.. يعني له السلام التسامح والرحمة والبوح.. نعم “البوح” الذي طالما اشتاق له بعد أن باتت حياته تراوح مكانها، تراوح روتين العمل الحاد والكتمان الذي بدأ يخنق روحه، ويفسد عليه لهفة الحديث لشخص يضع بوحه محلّ صون واهتمام.

لم يكن يعلم أن هذا المطر الذي احتلّ في حياته الشيء الكبير سيكون معيناً له ليس فقط على البوح وإنما على التصريح علانية من غير تردد أو خجل، بعد أن كان ذلك سمة عامة تتسم فيها علاقته.. وما كان لهذا أن يتم لولا أن سُؤل عمّا “يقول في دعائه في أجواء ماطرة باردة يهواها فؤاده”.

من غير تفكير ولا تسويل، وفي لحظات امتزجت فيها البرودة بدفء الدعاء الخالص.. وتداخلت فيها السياسية بالتاريخ وبالجغرافيا.. استلّ شجاعته وبدأ يبوح لها على أنغام كلاسيكية هطول المطر الذي يداعب بابه غرفته الخشبي، وفي صراحة ندر نظيرها في حياته.. وفي اللحظات هذه بدأت معالم الطريق ترتسم إلى ذلك الهدف المنشود.

هذا الهدف المعلن، والذي بدأ يعتمل فيها القلب، وتنشغل فيه الرّوح.. يقع ضمن أهداف ليست بالكثيرة يفني من أجلها حياته تكريساً للتزامات كان قد قطعها على ذاته من أجل تحقيقها بالشكل المطلوب، وهو في حِلّ منها إن لم تتحق.. فهو في حينها يكون قد استنفذ كل ما بوسعه، والقدر قال فيها الكلمة الفصل.

استمعتْ جيداً بينما كان مسترسلاً في تفريغ جعبته.. كان كلامه محمّلاً بمشاعر انتقلت في طبيعتها من الهمس إلى البوح.. ومن الكتمان إلى التصريح.. ومن القلب إلى القلب مباشرة من غير وسيط.. وفي موقف فريد من نوعه تناغمت فيه الرومنسية بالواقعية.. ولكن الموقف لا يعدو أن يكون أكثر من تجديد العهد، والوقوف عند الالتزمات التي قطعها على ذاتية بشكل “أحادي”.

ربما ما حدّثها به كانت تدركه بكل جوارحها.. بيد أنه كان من المهم بمكان أن يُعلن ذلك على الملأ في حرم جلستهما، وذلك حتى يرمم جرحاً كان قد نزف، ويطلق العنان لروحه لتجديد الولاء..

ورغم ما يكتنف ما اتخذه وأقدم عليه بالخطورة البالغة، والنجاح الخجول جداً، والعقبات التي اختلفت في شكلها واتحدت في مضمونها. إلا أنه كان مُصراً على إعلان الخطة والبدء في رسم أبعادها وآليات تنفيذها غير آبه بحجم المخاطرة على علمه اليقين بها.

ولأول مرة تدخل السياسية والتاريخ والجغرافيا رجحان لتوتير ما اعتزم القيام به.. إنها معادلة الزمان والمكان التي اضطر لأن يخضع لها، ولكن الإرادة هي صاحبة الموقف.. هي من تحدد بوصلة الإتجاه وتشحذ الهمم.. أما هو الآن يتكبد عناء الإنتظار.. وأي إنتظار هذا!!

الجميل هنا بل والعظيم، تلك التضيحات التي ستراق من أجل ذلك.. فالسفر بعيد والزاد لا يبلغه. فعليه أن يسقط من سلم أحلامه بضعاً، ومن ذكرياته بضعاً أخرى.. عليه أن لا يتذكر ما كان يعانيه، وعليه أيضاً أن يجعل الدافع للوصول لهدفه ما حققه فعلاً ليجعل منه سراجاً يهتدي به الطريق.. في معارك كهذه عليه أن يطمتي الحياة جيداً ليواجه أعتى وأمر المعوقات التي يمكن أن تطيح به.. تماماً لمن يمعن النظر في الزهرة ويتناسى تماماً النظر إلى الأشواك التي “تزين” غصنها، فهي أبلغ رسالة في أن الإنسان عليه أن يستعد جيداً قبل المواجهة، لأن الوصول للحلم يحتاج ويحتاج لتضيحات وتنازلات وربما تغير مسارات واتجاهات من أجل إعادة صهر المعطيات الموجودة للخروج بالنتائج الممكنة بصرف النظر عن حجم الخسائر الواقعة.. وإنه ليخالها فادحة..

ويبقى لسان الحال قائلاً: وعند الله لا تضيع الأمنيات.

أرقتيـني قبل أن أصلك إليك، فلا تخذليني

كتب محمد مرشد:

قد يكون لزاماً على الفرد أحياناً أن يفكر بمنطقية حينما يتخذ قراراً معيناً، سيما إذا كان هذا القرار مصيرياً، ويتعلق بمستقبل الشخص نفسه. وعلى الرغم من صغر سني حينها، إلا أني لا أدري تماماً لم كان عقلي متحجراً على الفكرة التي تدور في رأسي، ومصراً على تنفيذها بإيماني المطلق بها. أهو سن المراهقة الذي يطوف بنا يمنة ويسرة؟ أم أن الفطرة السليمة هي من ألهمتني الخيار؟ وعليها سرت. والحكاية نفسها في قرار مصيري آخر، وكأن التاريخ يعيد نفسه.

أفرح قليلاً، وابكي كثيراً

لا أكاد أذكر سوى في بعض التفاصيل الثانوية التي مررت بها عندما ذهبت إلى مدينة رام الله، حيث كانت تلك هي المرة الأولى التي أدخل فيها المدينة. حينها كنت متوجهاً أنا وأخي المهندس الزراعي لألتحق بكلية دار المعلمين التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين(الأونروا)، وذلك بناءاً على رغبة والدي القاطعة بالدراسة هناك، بعد أن أقنعه أحد المهنئين بنجاحي بالثانوية العامة بالدراسة في دار المعلمين، حيث قال له: ” أن التدريس فيها قوي، وهناك سكن داخلي، وثلاث وجبات طعام يومياً، أضف على ذلك مجانية التعليم فيها.. وبدأ هذا الزائر الكريم بطرح عينات من الشباب اللذين تخرجوا منها، وهم الآن موظفون بأفضل الدوائر، ويتلقون راتباً محترماً “.

هذه المبهرات التي أغدق بها ضيفنا الكريم على والدي، جعتله يصرف نظره عن تقبل أي فكرة مني عن الدراسة في أية جامعة أخرى، وكان الهدف المادي لوالدي واضحاً لي. حينها رفضت بكل ما أوتيت من قوة تلك الفكرة. ليس لأنني متكبر عن الدارسة فيها، وليس لأني حصلت على معدل عالٍ، إنما لأن رغبتي بدارسة ما أريد غير متاح في تلك الكلية.

بعد مناقشات موسعة، واجتماعات مكثفة، عقدها أخوتي مع والدي، لشرح نظرتي الشخصية، وتخصصي، خرج أخي الأكبر باقتراح مفاده أن أسجل مؤقتاً في هذه الكلية، حتى لا أتأخر عن التسجيل بصفة عامة، مع استئناف المحادثات في الأيام القليلة القادمة مع والدي لإقناعه بما يدور في رأسي.

وبالفعل كان ذلك، توجهت أنا وأخي المهندس إلى رام الله، وقمنا بتصديق شهادة الثانوية العامة من إحدى مدارس الإناث في المدنية، وقمنا بعدها بالتوجه للكلية، وقدمنا طلباً فيها، ومنها إلى المنزل.. ولكن يا ويلتاه كم كانت تلك الرجعة مليئة بالمشاق، فمن حاجز تفتيش إلى آخر… والسيارات تتجاوز ال70 على كل حاجز .. والمعاملة السيئة للجنود المتمركزين على نقاط التفتيش حدث ولا حرج… والنهاية كانت مع عودتي إلى المنزل في الظلام الدامس.. فطرحت نفسي مباشرة على فرشتي، بعد أن أنهكني وأعياني هذا اليوم الطويل العاصف بالتحديات.

محادثات التخصص

استؤنفت المحادثات بين أخوتي وأبي، والتي كنا قد جمدناها لحين التسجيل في كلية الوكالة، ويبدو أن هذا التنازل، وبادرة حسن النية التي قدمناها لوالدي من أجل دفع المسيرة الأكاديمية لي، لم تلق آذناً صاغية لديه، بل على العكس تماماً، فقد أزداد تزمتاً وإصراراً على مواقفه القديمة الجديدة.. وما كان مني إلا أن فجرت ما بداخلي بقوة واحد أحد، بعدما كنت لا أتجرأ ولو لأعز المقربين مني من أن أتفوه برغبتي الكامنة في التخصص. فقلت لأبي وأخوتي أني أريد أن أدرس ” الصحافة ” .. وحينها كانت الواقعة.. الكل ذهل من التخصص الذي بنفسي، ولم يكونوا متوقعين أن أختار هذا التخصص، وهنا انقلبت الأطراف المؤيدة لي إلى معارضة، وبذلك أصبح الكل خصمي في هذا التخصص.

أخوتي واللذين كانوا يدعموني دائماً بما أريد، هام هم الآن يرفضون ما تميل نفسي لدراسته، وأبي عندما رأى تحالف أخوتي معه ضدي ظن أن المعركة الأكاديمية ستكون لحسابه، وحاول أن يستغل أخوتي كورقة ضغط بعدما استطاع أن يستميلهم لجانبه بصورة غير مباشرة.

بعد مراوغة دام رحاها ليال عديدة، وضغوطات من أخوتي بتوجيه من أبي من أجل العزوف عما في رأسي، إلا أن صمودي على موقفي كان سيد الموقف. واللافت للأمر مضي أيام عديدة في هذا الموضوع، ما أدى للفت انتباه أقراني اللذين أصبحوا طلبة جامعيين بعد أن دفعوا أقساطهم الجامعية، وأنا أترنح بين الصمود، والضغوط.

أشرقت شمس الانتصار الأكاديمي، وكان لي ما أريد. (أدرس الصحافة بجامعة النجاح)، بعد أن نزل أخوتي لطلبي، وبعد فشل مساعيهم الحثيثة لردعي عن ذلك التخصص، حينها قال أخي المهندس لي في خطاب رسمي تاريخي : ” أنت يا حمودة، تتحمل مسؤولية اختيارك، لا تأت في المستقبل وتقل، أننا لم ننصحك، ولم نرشدك، هذا خيارك، ونحن غير راضين، وكذلك أبانا “. أبي ضرب على الموضوع بيد من حديد، وذلك بتهديدي بقطع المساعدات الأبوية الجامعية من الرسوم والمصروف عني طيلة دراستي.. لكني ضربت ذلك عرض الحائط، مصمماً على تنفيذ ما برأسي, وفي النهاية، وعندما وضع أبي تحت الأمر الواقع بات لزاماً عليه أن يقدم قسطي الجامعي، على الرغم من عدم رضاه عن التخصص.

يا له من حظ أسود

أصابتني نشوة الفرح على تحقيق رغبتي في دراسة ” الصحافة “، وفوراً اتصلت بالسائق الذي يعمل على خط مدينة نابلس، وطلبت منه أن يحجز لي مقعداً غداً معه، كي أذهب للتسجيل في الجامعة، وكان لي ذلك. قرابة السابعة صباحاً انطلقنا من بلدتنا قاصدين جامعة النجاح،، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن. حاجز ” بيت إيبا ” العسكري المقام على مدخل مدينة نابلس يطف بالبشر، أناس متكومين على بعضهم البعض، أطفال ونسوة يبكون، الشباب يتحدون الجنود المتمركزين على الحاجز، ويريدوا أن يمروا، إنه منظر شبيه بيوم الحج.. كان ذلك صدمة قوية لي، حينها أدركت أن المعاناة بدأت ترفع رايتها معلنة حياة جديدة بالنسبة لي تقوم على الشقاء، والاعتماد على الذات.

ساعات طوال قضيناها في سيارة السائق، ونحن ننتظر فتح هذا الحاجز العسكري. وبينما نحن جالسين على المقاعد بأجسامنا التي أضناها تعب الطريق، وبعيون ترقب سوداوية المشهد، صوت قوي صدر في المكان، هز المنطقة بأكملها، الكل أصابه الرعب والذعر، وبدأت الأصوات تنهال من هنا وهناك، والجنود يرغمون الناس على مغادرة الحاجز باستخدام العصي والغاز المسيل.. ما الخبر؟؟ يقول البعض أن الجنود ألقوا القبض على شاب كان بحوزته ” حزاماً ناسفاً “، حيث قاموا بتفجير الحزام، بينما اقتادوا الفتي لجهة مجهولة.

أسرع السائق بنا عائدين من حيث أتينا، وعيناي لا تكاد تفارق النافذة الخلفية التي تطل على الشارع المؤدي إلى الجامعة التي سألتحق بها، حتى زال المشهد تماماً. صمت أطبق علي حين دخلت المنزل، والإحباط كان يلازمني حيثما اتجهت، لكن الله يسر لنا في اليوم التالي رحلة موفقة على مشقتها تمكنت من التسجيل في الجامعة، ودفع القسط اللازم لذلك، وأهم شي سجلت تخصص ” الصحافة “، وها أنا الآن أعتبرها شريكة حياتي، حتى أني أطلقت شعاراً يقول ” لو كانت الصحافة فتاة لتزوجتها “