كتب محمد مرشد:
قد يكون لزاماً على الفرد أحياناً أن يفكر بمنطقية حينما يتخذ قراراً معيناً، سيما إذا كان هذا القرار مصيرياً، ويتعلق بمستقبل الشخص نفسه. وعلى الرغم من صغر سني حينها، إلا أني لا أدري تماماً لم كان عقلي متحجراً على الفكرة التي تدور في رأسي، ومصراً على تنفيذها بإيماني المطلق بها. أهو سن المراهقة الذي يطوف بنا يمنة ويسرة؟ أم أن الفطرة السليمة هي من ألهمتني الخيار؟ وعليها سرت. والحكاية نفسها في قرار مصيري آخر، وكأن التاريخ يعيد نفسه.
أفرح قليلاً، وابكي كثيراً
لا أكاد أذكر سوى في بعض التفاصيل الثانوية التي مررت بها عندما ذهبت إلى مدينة رام الله، حيث كانت تلك هي المرة الأولى التي أدخل فيها المدينة. حينها كنت متوجهاً أنا وأخي المهندس الزراعي لألتحق بكلية دار المعلمين التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين(الأونروا)، وذلك بناءاً على رغبة والدي القاطعة بالدراسة هناك، بعد أن أقنعه أحد المهنئين بنجاحي بالثانوية العامة بالدراسة في دار المعلمين، حيث قال له: ” أن التدريس فيها قوي، وهناك سكن داخلي، وثلاث وجبات طعام يومياً، أضف على ذلك مجانية التعليم فيها.. وبدأ هذا الزائر الكريم بطرح عينات من الشباب اللذين تخرجوا منها، وهم الآن موظفون بأفضل الدوائر، ويتلقون راتباً محترماً “.
هذه المبهرات التي أغدق بها ضيفنا الكريم على والدي، جعتله يصرف نظره عن تقبل أي فكرة مني عن الدراسة في أية جامعة أخرى، وكان الهدف المادي لوالدي واضحاً لي. حينها رفضت بكل ما أوتيت من قوة تلك الفكرة. ليس لأنني متكبر عن الدارسة فيها، وليس لأني حصلت على معدل عالٍ، إنما لأن رغبتي بدارسة ما أريد غير متاح في تلك الكلية.
بعد مناقشات موسعة، واجتماعات مكثفة، عقدها أخوتي مع والدي، لشرح نظرتي الشخصية، وتخصصي، خرج أخي الأكبر باقتراح مفاده أن أسجل مؤقتاً في هذه الكلية، حتى لا أتأخر عن التسجيل بصفة عامة، مع استئناف المحادثات في الأيام القليلة القادمة مع والدي لإقناعه بما يدور في رأسي.
وبالفعل كان ذلك، توجهت أنا وأخي المهندس إلى رام الله، وقمنا بتصديق شهادة الثانوية العامة من إحدى مدارس الإناث في المدنية، وقمنا بعدها بالتوجه للكلية، وقدمنا طلباً فيها، ومنها إلى المنزل.. ولكن يا ويلتاه كم كانت تلك الرجعة مليئة بالمشاق، فمن حاجز تفتيش إلى آخر… والسيارات تتجاوز ال70 على كل حاجز .. والمعاملة السيئة للجنود المتمركزين على نقاط التفتيش حدث ولا حرج… والنهاية كانت مع عودتي إلى المنزل في الظلام الدامس.. فطرحت نفسي مباشرة على فرشتي، بعد أن أنهكني وأعياني هذا اليوم الطويل العاصف بالتحديات.
محادثات التخصص
استؤنفت المحادثات بين أخوتي وأبي، والتي كنا قد جمدناها لحين التسجيل في كلية الوكالة، ويبدو أن هذا التنازل، وبادرة حسن النية التي قدمناها لوالدي من أجل دفع المسيرة الأكاديمية لي، لم تلق آذناً صاغية لديه، بل على العكس تماماً، فقد أزداد تزمتاً وإصراراً على مواقفه القديمة الجديدة.. وما كان مني إلا أن فجرت ما بداخلي بقوة واحد أحد، بعدما كنت لا أتجرأ ولو لأعز المقربين مني من أن أتفوه برغبتي الكامنة في التخصص. فقلت لأبي وأخوتي أني أريد أن أدرس ” الصحافة ” .. وحينها كانت الواقعة.. الكل ذهل من التخصص الذي بنفسي، ولم يكونوا متوقعين أن أختار هذا التخصص، وهنا انقلبت الأطراف المؤيدة لي إلى معارضة، وبذلك أصبح الكل خصمي في هذا التخصص.
أخوتي واللذين كانوا يدعموني دائماً بما أريد، هام هم الآن يرفضون ما تميل نفسي لدراسته، وأبي عندما رأى تحالف أخوتي معه ضدي ظن أن المعركة الأكاديمية ستكون لحسابه، وحاول أن يستغل أخوتي كورقة ضغط بعدما استطاع أن يستميلهم لجانبه بصورة غير مباشرة.
بعد مراوغة دام رحاها ليال عديدة، وضغوطات من أخوتي بتوجيه من أبي من أجل العزوف عما في رأسي، إلا أن صمودي على موقفي كان سيد الموقف. واللافت للأمر مضي أيام عديدة في هذا الموضوع، ما أدى للفت انتباه أقراني اللذين أصبحوا طلبة جامعيين بعد أن دفعوا أقساطهم الجامعية، وأنا أترنح بين الصمود، والضغوط.
أشرقت شمس الانتصار الأكاديمي، وكان لي ما أريد. (أدرس الصحافة بجامعة النجاح)، بعد أن نزل أخوتي لطلبي، وبعد فشل مساعيهم الحثيثة لردعي عن ذلك التخصص، حينها قال أخي المهندس لي في خطاب رسمي تاريخي : ” أنت يا حمودة، تتحمل مسؤولية اختيارك، لا تأت في المستقبل وتقل، أننا لم ننصحك، ولم نرشدك، هذا خيارك، ونحن غير راضين، وكذلك أبانا “. أبي ضرب على الموضوع بيد من حديد، وذلك بتهديدي بقطع المساعدات الأبوية الجامعية من الرسوم والمصروف عني طيلة دراستي.. لكني ضربت ذلك عرض الحائط، مصمماً على تنفيذ ما برأسي, وفي النهاية، وعندما وضع أبي تحت الأمر الواقع بات لزاماً عليه أن يقدم قسطي الجامعي، على الرغم من عدم رضاه عن التخصص.
يا له من حظ أسود
أصابتني نشوة الفرح على تحقيق رغبتي في دراسة ” الصحافة “، وفوراً اتصلت بالسائق الذي يعمل على خط مدينة نابلس، وطلبت منه أن يحجز لي مقعداً غداً معه، كي أذهب للتسجيل في الجامعة، وكان لي ذلك. قرابة السابعة صباحاً انطلقنا من بلدتنا قاصدين جامعة النجاح،، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن. حاجز ” بيت إيبا ” العسكري المقام على مدخل مدينة نابلس يطف بالبشر، أناس متكومين على بعضهم البعض، أطفال ونسوة يبكون، الشباب يتحدون الجنود المتمركزين على الحاجز، ويريدوا أن يمروا، إنه منظر شبيه بيوم الحج.. كان ذلك صدمة قوية لي، حينها أدركت أن المعاناة بدأت ترفع رايتها معلنة حياة جديدة بالنسبة لي تقوم على الشقاء، والاعتماد على الذات.
ساعات طوال قضيناها في سيارة السائق، ونحن ننتظر فتح هذا الحاجز العسكري. وبينما نحن جالسين على المقاعد بأجسامنا التي أضناها تعب الطريق، وبعيون ترقب سوداوية المشهد، صوت قوي صدر في المكان، هز المنطقة بأكملها، الكل أصابه الرعب والذعر، وبدأت الأصوات تنهال من هنا وهناك، والجنود يرغمون الناس على مغادرة الحاجز باستخدام العصي والغاز المسيل.. ما الخبر؟؟ يقول البعض أن الجنود ألقوا القبض على شاب كان بحوزته ” حزاماً ناسفاً “، حيث قاموا بتفجير الحزام، بينما اقتادوا الفتي لجهة مجهولة.
أسرع السائق بنا عائدين من حيث أتينا، وعيناي لا تكاد تفارق النافذة الخلفية التي تطل على الشارع المؤدي إلى الجامعة التي سألتحق بها، حتى زال المشهد تماماً. صمت أطبق علي حين دخلت المنزل، والإحباط كان يلازمني حيثما اتجهت، لكن الله يسر لنا في اليوم التالي رحلة موفقة على مشقتها تمكنت من التسجيل في الجامعة، ودفع القسط اللازم لذلك، وأهم شي سجلت تخصص ” الصحافة “، وها أنا الآن أعتبرها شريكة حياتي، حتى أني أطلقت شعاراً يقول ” لو كانت الصحافة فتاة لتزوجتها “
من فضلك، ساهم في نشر الموضوع.